قِصَّةٌ قَصِيرَةٌ.. بقلم الكاتب.. لطفي الستي.
أ. د. لطفي منصور
قِصَّةٌ قَصِيرَةٌ:
الْغُولُ هذا الْوَحْشُ الضّارِي:
- أَبا أحْمَدُ! أُرِيدُ أَنْ أُسِرَّ لَكَ شَيْئًا أَخْشَى أَنْ يُزْعِجَكَ؟
- يُزْعِجُنِي! وَأَيُّ شَيْءٍ يُزْعِجُنِي؟
قُلْ وَلا تَخْشَ.
- رَأَيْتُ ابْنَكَ سامِي مَعَ ماجِد فَخُذِ الْحَذَرَ!!
- مَعَ ماجِد ماذا تَقُولْ؟؟
- أَجَلْ أبا أَحْمَدُ، رَأَيْتُهُما في جُنْحِ الظَّلامِ يَسِيرانِ نَحْوَ الْمَبانِي الْمَهْجُورَةِ، وَلَوْلا خَوْفي مِنْ ذَلِكَ الشٍّرِّيرِ لَسَأَلْتُ سامِي: إلى أَيْنَ أَنْتَ ذاهِبٌ.
أَفْزَعَ أَبا أَحْمَدَ هذا الْخَبَرُ، وَازْدادَ قَلَقُهُ، وَلَمْ يُداعِبِ الْكَرَى عَيْنَيْهِ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، وَهُوَ يَتَقَلَّبُ في فِراشِهِ كَأَنَّهُ عَلى أَحَرَّ مِنَ الْجَمْرِ، مُحْتارًا ماذا يَعْمَلْ، وَكَيْفَ يُخاطِبُ ابْنَهُ الْوَحِيدَ بَيْنَ ثَلاثِ بَناتٍ، وَكانَ قَدْ تُوُفِّيَ ابْنُهُ أَحْمَدُ صَغيرًا.
كانَ سامي قدْ أَكْمَلَ دِراسَتَهُ الثّانَوِيَّةَ بِنَجاحٍ، وَطَلَبَ مِنْ والِدِهِ أَنْ يَشْتَغِلَ سَنَةً في بَيّارَةِ الْبُرْتُقالِ التّابِعَةِ لِوالِدِهِ قَبْلَ أَنْ يَتَوَجَّهَ إلى إكْمالِ دِراسَتِهِ في الْجامِعَةِ. وَمَضَتِ السَّنَةُ وَسامي عَلى أَحْسَنِ ما يَكُونُ صِحَّةً وَشَبابًا وَسُلُوكًا مِثالِيًّا لَكِنَّ أوْلادَ الْحَرامِ رَأَوْا في سامي صَيْدًا سَمِينًا، وَعَرَفُوا أَنَّ والِدَهُ في فَمِهِ الرِّيقُ، فَما أَنْ دَخَلَ الْجامِعَةَ حَتَّى نَصَبُوا لَهُ الشِّباكَ وَالْإغْراءاتِ وَأَوْقَعُوهُ في شَرَكِهِم مَهِيضَ الْجَناحِ يَأْتَمِرُ بِأَمْرِهِمْ، وَيَفْعَلُ ما يَطْلُبُونَ.
كانَ والِدُهُ قَدْ سَلَّمَهُ بَطاقَةَ اعْتِمادٍ لِدَفْعِ الْقَسْطِ الْجامِعِيِّ وقَضاءِ مصْروفاتِهِ مِنْ طَعامٍ وَشَرابٍ وَمَلابِسَ وَمَسْكَنٍ .
دَقَّ جَرَسِ التِّلِفُونِ في بَيْتِ أَبي أَحْمَدَ، وَكانَ عَلى الطَّرَفِ الثّاني مُديرُ الْبَنْكِ الْمَرْكَزِي:
- مَرْحَبًا أبا أَحْمَد!
- أَهْلًا وَسَهْلًا تَفْضَّلْ.
- إنْ سَمَحْتَ تَفَضَّلْ إلى الْبَنْكِ لِلتَّحَدُّثِ مَعَكَ بِأَمْرٍ يَهُمُّكَ.
ذَهَبَ أَبو أَحْمِدَ في الْيَوْمِ التّالِي لِمُقابَلَةِ مُدِيرِ الْبَنْكِ وَلَيْتَهُ لَمْ يَذْهَبْ.
- ما هذا أَبو أَحْمَد أَيْنَ الرَّصِيدُ ذَهَبَ، هَلْ بَنَيْتَ عَمارَةً بِسِتَّةِ أَشْهِرٍ ؟
- لَمْ أَسْحَبْ أَيَّ مَبْلَغٍ مِنْ حِسابي هُنا يا أَخِي!
-أَلَمْ تَنْظُرْ حِساباتِ بِطاقَةِ الِاعْتِمادِ؟ لَقْدْ صُرِفَ الْمَبْلَغُ كُلُّهُ بِوَساطَةِ بِطاقَةِ اعْتِمادِ الْبَنَكِ، وَابْنُكَ سامي هُوَ الَّذي كانَ يَسْحَبُ النُّقُودَ.
غَلَى الدَّمُ في عُرُوقِ أَبي أَحْمَدَ وَاحْمَرَّ وَجْهُهُ، فَأَسْرَعَ مُدِيرُ الْبَنْكِ بِتَقْدِيمِ كَأْسِ ماءٍ بارِدٍ لِيُخَفِّفَ مِنْ ضَغْطِ أبي أَحْمَدَ الَّذي خَرَجَ يُحَوْقِلُ.
رَجَعَ أَبُو أَحْمَدَ إلى بَيْتِهِ صامِتًا حَزِينًا، لا يُرُيدُ أَنْ يُكَلِّمَ أَحَدًا، وَفَجْأَةً نَظَرَ إلى ظَرْفِ بَرِيدٍ عَلى الطَّاوِلَةِ، فَتَناوَلَهُ فِإذا هُوَ لِسامِي مِنَّ الْجامِعَةِ فَفَضَّهُ بِيَدَيْنِ تَرْتَعِشانِ ، وَقَرَأَ:
حَضْرَةُ الطالبِ سامي خالِد
الْمُوْضُوعُ: دِراسَتُكَ في الْجامِعَةِ
أُبْلِغْنا مِنْ قِسْمِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ أَنَّكَ تَتَغَيَّبُ عَنْ مُحاضَراتِ اْلْأَساتِذَةِ، وَلَمْ تَتَقَدَّمْ مُطْلَقًا إلى امْتِحاناتِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ .
وَعَلَيْهِ فَقَدْ تَقَرَّرَ مِنْ قِبَلِ إدارَةِ الْجامِعَةِ إنْهاءَ دِراسَتِكَ لِهَذِهِ السَّنَةِ.
بِاحْتِرام
عَمِيدُ الطَّلَبَةِ
جُنَّ جُنُونُ أَبي أَحْمَد وَأَظْلَمَتِ الدُّنْيا في عَيْنَيْهِ، وَصاحَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: لَقَدِ افْتَرَسَ غُولُ السُّمُومِ وَالْمُخَدِّراتِ ابْنِيَ الْوَحيدَ سامِي، وَسَقَطَ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ.
أَخَذَتْ أُمُّ سامِي تَلْطُمُ وَجْهَها وَتَبِكِي وَتَقُولُ: ضاعَ وَلَدُنا سامِي، وَهُرِعَتْ أَخَواتُ سامي يَنْتَحِبْنَ وَعَمَّ الْبَيْتَ النَّحِيبُ وَالنُّواحُ.
أَفاقَ أَبُو سامي بَعْدَ الْغَشَيانِ ، وَأَشارَ عَلَيْهِ بَعْضِ أَصْحابِهِ أَنْ يَعْمَلَ عَلى إعادةِ سامي إلى الْبَيْتِ أَوَّلًا ثُمَّ إرْسالُهُ لِلفِطامِ إلى الْمُؤَسَّساتِ الْخاصَّةِ مِنَ الْإدْمانِ عَلى السُّمُومِ.
مَضَى عَلى سامي شَهْرانِ لَمْ يَعُدْ فِيها إلى الْبَيْتِ بِحُجَّةِ الْمُطالَعَةِ وَتَقْدِيمِ الِامْتِحاناتِ. حاوَلَتِ الْعائِلَةُ مُهاتَفَةَ سامِي فَلَمْ تَلْقَ جَوابًا، وَبَدَأُوا بالسُّؤالِ عَنْهُ فَذَهَبَتِ الْجُهُودُ عَبَثًا، واسْتَعانُوا بِالشُّرْطَةِ الَّتي بَذَلَتْ جُهُودًا جَبَّارَةً، وَكَثُرَتِ الْإشاعاتُ أَنَّهُ فُقِدَ أَوْ قُتِلَ، وَسادَ الْفَزَعُ الْبَيْتَ والْجِيرانَ، إلّا أَبا أَحْمَدَ، فَقَدْ بَقِيَ رابِطَ الْجَأْشِ يَحْدُوهُ الْأمَلُ لِلْعُثُورِ عَلى ابْنِهِ، وَزادَ اعْتِقادُهُ أَنَّهُ قَرِيبٌ مِنْهُ وَعَلَيْهِ أنْ يَسْعَى لِخَلاصِهِ. وَقَدْ قَوِيَ إيمانُهُ عِنْدَما أَخْبَرَهُ صَدِيقُهُ أَنَّهُ رَأَى سامي مَعَ رَئِيسِ عُصابَةِ الْإجْرامِ في الْمِنْطقَةِ، وَكانَ خَطِيرًا جِدًّا، قَتَلَ عِدَّةَ أَشْخاصٍ دُونَ رَحْمَةٍ وَلَا ضَمِيرٍ.
وَكانَ لا بُدَّ لِأَبي أَحْمَدَ إلّا أَنْ يَتّوَجَّهَ ثانِيَةً وَبِحَزْمٍِ إلى الشُّرْطَةِ لِيُخْبِرَهُمْ عَنْ مَكانِ وُجُودِ هَذِهِ الْعُصابَةِ، وَتَمَّ ذَلِكَ وَنْصَبَتِ الشُّرْطَةُ رَصَدًا عَرَفَتِ مِنْهُ مَكانَهُمْ، وَضَرَبَتْ عَلَيْهِمْ طَوْقًا مُحْكَمًا، وَلَمْ تَنْفَعْهُمُ الْمُقاوَمَةُ وَقُتِلَ كَبيرُهُمْ، وَاسْتَسْلَمَ الْباقُونَ وَسَيْطَرَتِ الشُّرْطَةُ عَلى ما لَدَيْهِمْ مِنْ مَخْزُونٍ وَعُقاراتْ، وَحَرَّرُوا سامِي إلى أَهْلِهِ، وَأَحالَهُ أَبُوهُ إلى الْمَصَحّاتِ النَّفْسٍيَّةِ، وَمِنْ ثَمَّ إلى مُؤَسَّساتِ الْفِطامِ مِنَ الْإدْمانِ ، مِنْ غُولِ الْحَضارَةِ الَّذي يُخْرِجُ الْمُسْتَعْمِلِينَ عَنْ جادَةِ بَني الْبَشَرِ لِيُصْبِحُوا أَقْرَبَ إلى الْحَيَواناتِ مِنْهُمْ إلى الْبَشَرِ، بَعْدَ أَنْ باعُوا أنْفُسَهَم إلى غُولِ السُّمُومِ بِكُلِّ أَنْواعِها.
تعليقات
إرسال تعليق