رحلة على الورق/بقلم الكاتبة/رانية الصباغ.
رحلة على الورق
في ليلةٍ خريفيةٍ عاصفةٍ، استلقى على فراشه البارد يقضمُ ذكرياته ويرتشف الشاي من كوبه الخزفيّ.
تخترق الريح شقوقَ الشبّاك الخشبيّ فيَسمعُ صدى صوتها في روحه. هَمسَ لنفسه:
- "ما كل هذا الخواء؟. بعد رحيلها لم يبقَ شيءٌ.
مازلتُ تحت تأثير الصدمة، لا أجد مبرراً لقرارها، كيف يموت الحب الذي نما في جوانحنا أعواماً برمشة عين؟
لم أعد أملكُ إلا الأوراق أسافر بها إلى عالمٍ يقبلني وأقبله".
نهض بحماسٍ واتجه إلى مكتبه، أشعل الضوء وجلس إلى أوراقه البيضاء. ما تزال الريح تتخللُ الشقوق وتعبثُ بشعره المتطاير حتى اشتدت ففُتِحت درفةُ الشباك. طارت الورقة من يده لكنه أمسكها بقوة، ومن شدة الريح طارت إلى الخارج وسحبته معها، بعد أن قرّر الاستسلام والانصياع لها.
هبط على العشب في بستان تفاحٍ على سفح جبالٍ عاليةٍ خرافيّة الجمال. أذهله منظر الغيوم البيضاء إلى أسفل الجرف. لم يكن يتصور بأنه سيقف فوق مستوى الغيوم يوماً ما. ومن خلال بقعٍ ينكشف عنها الغيم رأى البحر من بعيد يحتضن الجبال ويحتضن بقاياه التي خلفتها رحى الأيام .
تمتم:"ما كل هذا الجمال كأنّ القبح لا يوجد إلا في قلوب البشر."
المنظر مهيبٌ. شعر بضعفه أمام هذه الجبال المتجذّرة في الأرض منذ ملايين السنين تقاوم الرياح والسيول وتصبر على تقلب مزاج الطقس.
طاف في البستان يرمق التفاح الذي بدا كأنه عقيقٌ أحمر معلقٌ على أغصان الأشجار.
قادته خطاه إلى سياجٍ خشبيٍّ، تجاوزه بقفزةٍ صغيرةٍ.
وسار إلى الأعلى في طريقٍ ترابيٍّ ضيّقٍ يلتفّ حول قمم الجبال كأنّه أغنيةٌ تتدفق من فم الغابات والمروج.
لاحت له من بعيد امرأة تجلس عند سياج بستانٍ، وتصُفّ بجوارها سلال تفاحٍ.
بدت بفستانها الخمريّ وشالها الأبيض المغزول من خيوط الحرير جزءاً لا يتجزأ من هذا الجمال الآسر.
اقترب منها وبادرها بالتحية، وعندما استدارت نحوه لتردّ التحيّة، كاد أن يغمى عليه. إنّها هي، زوجته التي رحلت عنه دون ذنبٍ اقترفه، ودون سابق إنذار.
صرخ في وجهها:" لمَ رحلت؟"
بدا على وجهها الخوف. تراجعت إلى الخلف . ابتلعت ريقها. وقالت بصوتٍ مرتجف:" أنا..هل..لل تعنيني أنا "
تفحص ملامح وجهها الجميل وعينيها العسليتين. همس في نفسه:" إنها هي ما كنت لأخطئها غير أن لهجتها الريفية تثير مخاوفي. هل تراها فقدت الذاكرة؟ لمَ لم تعرفني؟ لمَ خافت مني؟ قد تكون فاقدةً لذاكرتها، لابد أعاملها برفقٍ حتّى لا تهرب منّي مرةً ثانيةً."
اصطنع ضحكةً عاليةً وقال "كنت أمزح. لعلّي أثقلتُ عليك. اعذريني فأنا بطبعي مندفعٌ وأتصرف على سجيتي في تواصلي مع الآخرين.
أشرق وجهها بابتسامة تشبه انبعاث أشعة الشمس من خلف الغيوم ، وقالت : "لا عليك ياسيدي. كأنك من المدينة؟"
سحب كرسياً وجلس . وهو يقول:
_ نعم .هل أستطيع أن آخد قسطاً من الراحة فقد سرت طويلاً حتى تعبت؟
_ تفضل أهلاً وسهلاً.
_ أنا كاتب روائي وأبحث دوماً أماكن جميلة تلهمني حتى أستطيع مواصلة الكتابة. علاقتي مع الطبيعة علاقة تماهٍ وانسجامٍ. ماذا عنك؟
_ أنا قرويةٌ تبيع التفاح كما ترى.
_ ماذا عن عائلتك؟
_ توفي زوجي من شهورٍ وتركني وحيدةً هنا.أنا من قرية بعيدة و إخوتي سافروا خارج البلاد.
_ألديك أطفال؟
_ لا. لكن لدي أصدقاء كثر. آهالي القرية طيبون يعاملوني كأنني منهم.
_ هل تجلسين هنا كل يوم؟
_نعم فبالقرب من هنا محطة لانطلاق الحافلة إلى المدينة .
كثيرٌ من الغرباء يمرون من هنا ويشترون التفاح قبل عودتهم إلى المدينة.
بعد صمتٍ دام ربع ساعة أو أكثر قضاها وهو يتأمل الطبيعة الآسرة ويسترق النظر إلى وجهها الطفوليّ ويسائل نفسه:" أهي زوجتي أم أنني أتوهم؟ إذا كانت هي فما الذي آتى بها إلى هذا المكان. كيف سأتركها ؟ أخشى ألّا أجدها إن عدت".
سألها وهو يهمُّ بالنهوض:
_هل سألقاك إذا عدت مجدداً ؟
_ بالتأكيد.
ناولته كيساً فيه بضع تفاحات وقالت بابتسامةٍ حييّة هذه هديةٌ ولا أريد ثمنها.
حمل التفاح بين يديه كمن يحمل كنزاً وقال:
_ سأحضر لك في المرة القادمة رواية من رواياتي لتقرئيها.
_ سأنتظرك.
ودّعها ومضى باتجاه المحطة. وبعد مسيرة أمتار استدار وسألها: ما اسمك؟
_سراب. وأنت؟
_ ذاكر. اسمي غريب بعض الشيء. هههه...
استقل الحافلة مودعاً الجبال والغابات و الغيوم و وجهها الجميل.
عاد إلى البيت منهكاً لكنه اضطر إلى إصلاح درفة الشبّاك المقلوعة، قبل أن يخلد إلى النوم.
شعر ببعض الجوع فأخرج تفاحةً من الكيس. اشتم فيها رائحة فاتنته. مسحها بيديه وقضمها لكنّ طعم الورق كان مراً كطعم الفراق.
رانية الصباغ/سوريا
تعليقات
إرسال تعليق