جاري جزار/بقلم الكاتب/ابراهيم سليمان.

 (جاري جزار)

 

 

مقدمة

 

هذه قصة من مجموعة قصصية منفصلة متصلة بعنوان حياة أقدم شعوب الأرض، هي من واقع الحياة، تناولتها تناولًا طفيف الدرجة لأرسل رسالة لمن يهمهم الأمر، كنت قد كتبتها منذ أعوام وبالتحديد في بدايات هذا القرن كنت صغيرًا جدا وقتها وأنشرها الآن كما كتبتها بالرغم من أنها قد تحتاج لبعض أو كثير من التنقيح والمراجعة وتسويغ بعض العبارات الغير سائغة ولكني أنشرها كما هي لأني أحببتها كما هي ولها في قلبي الكثير من الذكريات فهل أنت يا سيدي القارئ ستحبها مثلي، أتمنى ذلك.

 

 

 

بعد أن استقرت سفينة فضائية على أرض مدينة القاهرة عاصمة مصر خرج من بابها شابان هدفهما أن يتما المهمة التي أُسندت لهما وهي دراسة شعب مصر وما آلت إليه حضارته لأنهم يعلمون أنهم أقدم شعوب العالم، وإن أرادوا السيطرة على كوكب الأرض يجب أن تكون البداية من هناك، بعد أن أتما تقريرهما الرابع بدآ في إكمال مهمتهما، فأخرج أحدهما منظارًا ذا عينين الذي يستخدماه في نفس الوقت متجاوزين مسافات بعيدة ومخترقين كل الجدران، وكان الهدف هذه المرة أمام باب شقة في عمارة سكنية جديدة.

 

 

 

اُدخل بقدمك اليمنى يا أيمن لتحل البركة على الشقة، ودخل أيمن لشقته الجديدة داعيا الله أن يوفقه ويرزقه رزقا واسعا وفيرا، وينعم عليه سبحانه وتعالى بالسعادة مع زوجته وابنه كريم الذي لم يتم عامه الثالث، ونظر إلى أمه وقال لها أكثري من دعائك لي يا أمي.

كان أيمن ضئيل الجسم وجهه طفولي قريب الشبه من ابنه كريم، مرهف الأحاسيس تشعر أنه لا ينتمي لهذا الزمان ولهذا العالم المادي، كثير التأمل، كثير الهرب من المشكلات الرتيبة والأفكار الروتينية، له ابتسامة رقيقة ومشاعر فياضة تفيض بكل الخير وتغمر كل من يعرفه ويقابله، بالرغم من ضآلة جسمه كان يمتلك عقلا جبارا يستنير به كل من يتعامل معه، كان ينأى بنفسه عن أي مشكلات ويتجنبها ليعيش هادئا مع زوجته وابنه كريم، كان دمث الأخلاق يمتلك من الحياء ما يرقيه على من حوله ويرفعه إلى أعلى الدرجات، كان مهندسا مبدعا، قليل الكلمات تاركا ابتكاراته وأعماله تتحدث عنه، كانت اختراعاته تصنع له مجدا شخصيا ولكن من يقدر في هذا الزمان ومن يصدق أن الوطن يملك مخترعا، وكان زملاؤه في العمل يحقدون عليه كثيرا.

قال أيمن لأمه بعد أن دخل لشقته الجديدة: إنها شقة جميلة يا أمي، تعبت كثيرا لكي أحصل عليها ودفعت مبلغا كبيرا ولا يزال ثمنها لم يسدد كاملا ولكني فرح بها يا أمي.

ابتسمت له قائلة: مباركة يا بني فأخذها من يدها : تعالي يا أمي كي تري الشقة كاملة، هذه حجرة المكتب وهذه حجرتك وهذه وهذه.....

قالت أمه: إنها جميلة يا بني وفقك الله لا ينقصها إلا الجيران الطيبين، وفجأة اقتحمت أصوات وصرخات هدوء المكان، وسمعوا هذا الحوار والمناقشة النارية.

-          (يا ولية لسه ما حضرتيش الغدا أنا سايب الواد كفتة لوحده في المحل).

-          (أنا أعمل ايه اللحمة بتاعتك مش راضية تستوي، أنا عارفة دي لحمة ايه دي يا معلم).

-          (لحمة ايه يعني يا ولية دي لحمه فلتو معتبرة خصوصي أنا قاطعها بايدي لبيتي).

-          (يا ولية انا هنام نص ساعة أصحى ألاقي كل شيء تمام).

وعاد الهدوء إلى المكان، نظر أيمن لأمه وقال: جاري جزار فقالت أمه : ربنا يستر يا بني.

وبعد المجهود في ترتيب الأثاث قال أيمن الآن سنخلد للنوم قليلا فردت أمه: نعم يا بني لقد تعبنا كثيرا اليوم في نقل أثاث الشقة وبعد فترة استيقظوا مفزوعين على صوت عدوية وكان صوت (كاسيت) مرتفعا، فنظر أيمن إلى الساعة فوجدها قد قاربت على منتصف الليل، فنهض أيمن من فراشه قائلا: هذا لا يطاق، ونظر إلى أهل بيته الذي أيقظهم نفس الصوت المرتفع، وأكمل : ما تلك الأصوات إنها لمكبرات صوت، كيف نستطيع النوم في هذا الضجيج؟ فتتبع أيمن مصدر الصوت فوجده خارج من عند جاره الجزار، فقال أيمن يجب أن أذهب إليه. فأوقفته أمه بقولها: لا يا بني لا تذهب. وفجأة ارتفع الصوت أكثر مما كان فقال أيمن غاضبا: اتركيني يا أمي، ففتح أيمن باب شقته بقوة وطرق باب الجزار بقوة أيضا، فخرج عملاقا من خلف الباب غاضبا عاقد الحاجبين، فنظر أيمن له بدهشة، إنه مفتول العضلات، ضخم البطن والرأس، طويل القامة، عريض الجسد، فتح الباب ووقف مكانه كأنه الباب، لا يرى شيئا من خلفه، وسمع صوتا من داخل شقة الجزار: مين يا معلم عاشور. فرد المعلم عاشور: (أنا عارف البلاوي دي بتتحدف علينا منين يا ولية)، فانتابت أيمن رعشة بل رعشات، كل خلية من خلايا جسده ترتعش ويرتجف أيمن أمام هذا العملاق، ونظر الجزار إلى أيمن وقال له: حد يخبط على حد في نص الليل.

فقال أيمن بعد أن وصلت الرعشة إلى لسانه أنا آسف وعرفه بأنه جاره الجديد وطلب منه بأدب أن يخفض من صوت الكاسيت قليلا لأنه أيقظهم من النوم.

فرد المعلم عاشور بصوت أجش : (أعمل ايه من صوت مين دا صوت الدش وانا طول عمري كده ولازم تتعود على كده زي غيرك).

انفعل أيمن ونسي خوفه وقال: (ازاي احنا مش بني آدمين زيك، عايزين ننام لوسمحت)، رد عليه المعلم عاشوربغيظ: (وريني هتقدر تعمل ايه). وبدأت المعركة الغير متكافئة وكانت النتيجة المتوقعة نهايتها بعد عدة ثوان بالضربة القاضية.

وقام أيمن من على الأرض ودخل إلى شقته بعد أن وصل الجيران ودخل أستاذ باسم الذي يسكن في نفس العمارة مع أيمن إلى شقته، تمالك أيمن نفسه وقال: ما هذه الهمجية يجب أن نبلغ الشرطة وانت يا أستاذ شاهد ، اسمي باسم جارك في نفس العمارة أنصحك ألا تفعل، إن المعلم عاشور ليس بالضعيف، له علاقاته في كل مكان، في الصحة والشرطة وفي كل مكان، وعليه أحكام عديدة معظمها مشاجرات وصحة، ومنذ أن سكنت هنا وأنا أسمع كلاما كثيرا وقصصا كثيرة عن المعلم عاشور، يتكلمون أنه فتوة المنطقة، يقولون أيضا إنهم وجدوا عنده لحم كلاب يباع على أنه لحم ماعز، ولحم حمير يباع على أنه لحم بتلو، ومع ذلك ما زال فاتحا دكانه وصوته مجلجل في العمارة وفي الشارع كله، فلا تتعجل يا أستاذ !. أيمن اسمي أيمن. فصمت أيمن وتراجع عن فكرة إبلاغ الشرطة وقال بحسرة حسبي الله ونعم الوكيل ، وقالت أمه: ربنا على الظالم، كانوا يسمعون بعضهم بصعوبة نظرا لصوت الدش المرتفع من عند المعلم عاشور.

ويوم آخر وصوت الدش يعلو ويعلو، يمنع التفكير ويمنع النوم، ويمحو كلمة الهدوء من المكان، فقال أيمن هذا لا يطاق من يحمينا من هذا المفتري، ومن المسئول عن أمننا وسلامتنا. فقالت أمه: اُدع الله يا بني، فقال أيمن: إني دعوت الله يا أمي ولكن هل الدعاء يكفي، هل أجلس جانبا وأدعو الله فقط، يجب أن أقوم بأي عمل أحمي به نفسي وأولادي، أحمي به أسرتي الصغيرة، إن الوقت تأخر الساعة الآن الثانية صباحا والصوت يعلو ويعلو، يجب أن أستعيد كرامتي سأبلغ الشرطة عن هذا الوغد، قاطعته أمه: لقد حذرك أستاذ باسم. فأجاب : يجب أن أبلغ الشرطة إنها في خدمة الشعب، إنها في خدمتنا، ومن ينقذنا غيرها، لن أكون سلبيا فقالت زوجته: أول مرة تتكلم منذ المعركة وقالت من في خدمة من؟ وأكملت حديثها وقالت إذا كنت مصمما، بلغ الشرطة ولا تذكر اسمك إن الصوت عالِ ويزعج كل الشارع. قال : نعم سأقوم بذلك والله الموفق، وأبلغ أيمن الشرطة ولكنهم طلبوا منه الاسم أولا ولم يُجب أيمن وهم أيضا لم يسألوا، فقد انتظرهم أيمن لمدة ساعة والساعة الآن اقتربت على الثالثة صباحا، فقام أيمن وأبلغ الشرطة ثانية وترك اسمه وعنوانه، وتحركت الشرطة وصعدت إلى شقة الجزار واقتادوهم إلى القسم واكتشف هناك أنهم يعرفون المعلم عاشور عندما دخل عليهم ضابط بالصدفة وقال للمعلم عاشور: لحمتك وحشتنا يا معلم عاشور، وحاولوا أن يصلحوا بينهم ولكن أصر أيمن أن يقوم بعمل محضر، وخرج أيمن سريعا من القسم وتذكر نظرات المعلم عاشور له، كانت كل نظرة تحمل تهديدا ووعيدا، وفكر أيمن كيف يحمي نفسه من إمبراطورية المعلم عاشور وصعد إلى شقته وهو في قمة الخوف وعندما دخل إلى شقته حكى لهم ما حدث معه في القسم وقضوا ليلتهم خائفين.

وفي اليوم التالي استيقظ أيمن مبكرا وخرج سريعا من باب العمارة وبعد لحظات تفاجأ بمن يتبعه ونظر خلفه فلمح نظرات الغضب إنها تشبه نظرات المعلم عاشور،فأسرع في خطواته فأسرعوا أيضا، فجرى فجروا خلفه فتأكد أنهم يتبعون المعلم عاشور، ولم يستطع أن يفلت من أيديهم، وقع فريسة، ونال من الضرب المتنوع ما احمر له الجسم كله، وتركوه على الأرض غارقا في دمائه، وتحامل على نفسه حتى استطاع العودة وشاهد المعلم عاشور ولكن نظراته تغيرت وتبدلت وصاحبتها ابتسامة الانتصار والشماتة، وصعد إلى شقته وصرخت أمه عندما رأته ورأت الدماء تملأ وجهه فقالت: يا إلهي ما كل هذا يا بني من فعل بك هذا فقال: المعلم عاشور، وقال أيمن بحسرة: ماذا أفعل له أُبلغ الشرطة ثانية ؟ وكان مرهقا فبعد أن أصلح من حاله دخل في نوم عميق.

وفي صباح اليوم التالي

-استيقظ يا بني

-حاضر يا أمي.. وجدتها وجدتها عقلي وجدها

-ما هذه يا بني

-فكرة بمليون جنيه، الحمد لله

ودخل إلى حجرة مكتبه سريعا وأغلق الباب خلفه، لم يخرج منها ولم يأكل شيئا، ويرفض دخول أحد عليه حتى أذان المغرب فصلى ثم خرج سريعا من شقته، حاولت أمه أن تمنعه فهو ما زال متعبا ولكنه رفض فقال سأتأخر ساعتين فقط. فقالت: خذ حذرك يا بني وأخذت تدعو له، وبعد ثلاثة ساعات كان أيمن يقف على الباب ويطرقه بشدة.

-ما هذه الأشياء يا أيمن

-لا تقلقي يا أمي سيكون خيرا إن شاء الله، ودخل إلى مكتبه وأغلق الباب عليه، وانتظروا كثيرا خروجه حتى غلبهم النوم، وفي صباح اليوم التالي استيقظوا وذهبوا سريعا إلى مكتب أيمن ليطمئنوا عليه جميعا، صاحوا جميعا بخوف ما هذا؟ فقد كان يقف رجل حديدي أمام المرآة، فسمعوا صوت أيمن : لا تقلقوا أنا هنا فبحثوا عنه دون جدوى، فقالت والدته: أين أنت يا أيمن وما هذا الإنسان الآلي فقال: أنا هنا داخل هذا الهيكل الحديدي، فجروا عليه فقال: لا لا توقفوا من يلمسني سيتكهرب. ما هذا يا أيمن ولم كل هذا فأجاب: سأخذ حقي بيدي، في هذه الغابة كل شيء مباح.

 

 

 

نظر بور إلى حور فرأى وجهه غاضبا وعلامات الحزن بادية عليه ، فقال له : للمرة الخامسة يا حور تتغير فيها طباعك نحن لا نعرف هذا الغضب والحزن وهذه المشاعر، لقد أصبحنا على هيئتهم ليساعدنا ذلك في أداء مهمتنا اِحذر ثم اِحذر.

حور : شعرت بإحساس مختلف غريب، أنت تعرف بأن لنا بعضا من الحواس المشتركة مع بني الإنسان لكن لا أعرف، هناك مشاعر جديدة مختلفة تجتاحني.

بور: ولكن قل لي لماذا غضبت.

فرد عليه حور بعد أن عاد لطبيعته : غضبت كثيرا لما حدث مع هذا المهندس الخلوق الذي يريد أن يعيش في سلام مع أسرته الصغيرة ويقدم لمجتمعه كل ما يستطيع ولكن بلا مقابل، بالعكس لا يحصل على أقل الحقوق، كان يتكلم متأثرا بشكل كبير ويظهر ذلك على وجهه وفي نبرة صوته.

صرخ فيه بور غاضبا، وقال: عُد إلى رشدك وإلى مهمتك، لم نأتِ إلى هنا لنحل مشكلاتهم نحن في مهمة لا بد من إنجازها سريعا.

وبعد أن أتما تقريرهما الخامس ذهبا ليخلدا إلى النوم في انتظار تقرير جديد .......

 

انتهت قصة جار جزار ولم تنتهِ قصص حياة أقدم شعوب الأرض ......

 

إبراهيم سليمان

 



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

رحمك الله أبي/بقلم الشاعر/جمال الغوتي.

أنا ورحلة البحث/بقلم الكاتبة/هانم عطية الصيرفي.

يوم الحساب فإما جزاءٌ أو عقاب/بقلم الكاتب /مايك سلمان.