مخطوطات قمران 2_ طريق البحر /بقلم الكاتب/عبدالفتاح الطياري.

مخطوطات قمران 
2_ طريق البحر 
كانت الطريق نحو البحر الميت تمتدّ أمامي كأنها شقٌّ في جلد الأرض، جرحٌ قديم لا يندمل. الهواء جافّ يلسع الوجه، والسماء بلا غيوم كأنها صفحة حجرية تنتظر نقشًا جديدًا. كل شيء في تلك الصحراء كان يبدو ساكنًا… إلا قلبي.
كل بضعة كيلومترات، تلوح خيمة أو ظلّ جمل بعيد؛ شهادة صامتة على أن البداوة ما زالت تتنفّس هنا، رغم كل الخرائط الحديثة. وفجأة رنّ هاتفي بينما كانت السيارة تشقّ الفراغ بثبات. رقم مجهول.
ترددتُ لحظة، ثم أجبت.
– هل تعرف ما الذي تحمل بين يديك؟جاء الصوت خافتًا، بلا مقدّمات، كأنه يخرج من بردٍ قديم.
– من أنت؟
– لستُ عدوًا… لكن دعني أنصحك: لا تذهب أبعد مما وصلت إليه.
– ولماذا؟
– لأن الذين سبقوك… لم يعودوا ليخبرونا بما وجدوه.
وانقطع الخط، تاركًا وراءه صمتًا أثقل من الكلمات.
أوقفتُ السيارة على جانب الطريق. العرق يتجمع في راحتيّ رغم برودة المكيّف. فتحتُ الحقيبة الصغيرة إلى جانبي وأخرجت الرقّ القديم الذي كنت أخفيه. قطعة بحجم كفّ اليد، مصفَرّة، عليها حروف عبرية باهت بعضها وحاد بعضها الآخر كأنه كُتب بالأمس.
وفي أسفل الرقّ كانت هناك علامة لم أنتبه إليها سابقًا: دائرة صغيرة يتقاطع داخلها خطّان. ليست نجمة داود، ولا ختمًا معروفًا… شيئًا آخر، لا يشبه أي رمز رأيته في مخطوطات قمران المنشورة.
لم أعرف إن كان ذلك الاكتشاف خوفًا أم حدسًا، لكني شعرت فجأة أنّ ما أحمله ليس مجرّد أثر من الماضي، بل مفتاح. مفتاح لشيء يخشاه البعض، ويتصارع عليه آخرون.
أعدت تشغيل السيارة. ازدادت الطريق انحدارًا كلما اقتربت من أخفض نقطة على سطح الأرض. كان البحر الميت يلمع من بعيد كبحيرة من زجاج مكسور. ومع كل متر، يتكاثف داخلي شعورٌ بأن أحدًا يراقبني. لا أدري أهو وهم الطريق… أم الحقيقة التي اقتربتُ منها أكثر مما يجب.
عند مشارف بلدة صغيرة على الضفة، لاحظت رجلاً يقف أمام دكّان مهجور يحدّق بسيارتي بنظرة غريبة؛ عيناه تتبعان حركة يدي وكأنه ينتظر إشارة.
كأن أحدًا بلّغه بوصولي.
تجاهلته، لكن قشعريرة خفيفة كانت كافية لأدرك أني لم أعد وحدي في هذه الرحلة.
وقبل أن أتابع السير، مرّ بجانبي صبيّ بدويّ، لم يتجاوز العاشرة، وهمس بصوت خافت: "الورقة التي تبحث عنها… ليست الأولى. عندي الكثير منها للبيع...'
ثم مضى كأنه لم يكن.
لم يفارقني صوته وأنا أتقدم ببطء عبر الأزقة الرملية. جملة قصيرة، لكنها فتحت في صدري بابًا للقلق. أوقفت السيارة قرب بئر قديم تحيط به حجارة متآكلة. المكان بدا مهجورًا، لكن آثار أقدام حديثة ظهرت في الرمل: خطوات صغيرة… ربما لطفل؛ تتداخل مع خطوات أكبر وأعمق، كأن أحدهم كان يتبعه… أو يراقبه.
ترجلتُ أتفحص المكان. فجأة دوى خلفي حفيف خفيف. التفت سريعًا… لا أحد. فقط الريح تعبث ببابٍ مهترئ.
لكن شيئًا على الجدار لفت نظري: رمز مُخطط بالفحم...دائرة صغيرة يتقاطع داخلها خطّان. نفس العلامة الموجودة على الرقّ.
اقتربت أكثر. الخطوط دقيقة، ثابتة، كأن من رسمها يعرف تمامًا معناها. لمسْتُ الجدار… الفحم كان طريًّا، جديدًا.
خرج صوت خلفي: 
– تبحث عن شيء؟
استدرت. الرجل الذي رأيته قبل قليل يقف الآن على بعد خطوات، يديه خلف ظهره، ونظرة يصعب فكّ شفرتها. ثوبه بسيط، لكن ملامحه لم تكن ملامح أهل المنطقة. بدا كموظف دولة… أو باحث. 
– مجرد فضول، قلتُ محاولًا إخفاء توتري.
– في هذه المنطقة… الفضول يدفن أصحابه بسرعة.قالها ببطء، نبرة بين التهديد والنصيحة.
– هل تعرف هذا الرمز؟سألته وأشرت إلى الجدار.
تجمّد وجهه لحظة، ثم قال:
– هذا ليس رمزًا… بل تحذير.
– تحذير ممّاذا؟
– من الطريق التي تسير فيها.ثم أضاف متسائلًا:
– والبداية كانت مع ذلك الصبي، أليس كذلك؟
شعرت بانقباض داخلي.– هل تعرفه؟
ابتسم ابتسامة لا تصل إلى عينيه:
– الصبيّ؟ في هذه البلدة… لا يوجد أطفال منذ سنين طويلة.
ثم لمحَ طرف الرقّ يخرج من جيبي، وقال بخفوت:
– وأنت جئت من أجل مخطوط… قطعة ضائعة… صحيح؟
قبل أن أجيب، التفت فجأة نحو صوت خطوات قادمة من آخر الطريق. خطوات سريعة، كأن أحدًا يقترب.
همس بسرعة:
– إن رأيتَ ذلك الطفل مرة أخرى… لا تتبعه.
ثم ابتعد واختفى خلف الجدار.
وقفت وحدي، محاطًا بالغبار والرموز والشكّ. لكن ما صعقني حقًا لم يكن كلام الرجل…
بل ظلي.
نعم… ظلي على الأرض.
كنت وحدي، ومع ذلك كان هناك ظلّ صغير يقف بجانب ظلي، ثابتًا، لا يتحرك.
ظلّ طفل.
رفعت رأسي بسرعة… لا أحد.عدت أنظر إلى الأرض… الظلّ ما يزال هناك.ثم، ببطء شديد… بدأ يبتعد عني.
بلا صاحب.
بقلم: عبدالفتاح الطياري – تونس

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

رحمك الله أبي/بقلم الشاعر/جمال الغوتي.

أنا ورحلة البحث/بقلم الكاتبة/هانم عطية الصيرفي.

أفكار غير متراصة/بقلم الشاعر/عبدالله علي ناصر البخيتي.