عضة الصقيع/بقلم الكاتبة/هانم عطية الصيرفي.
عضة الصقيع
لم يتركني الصقيع الليلة حيث كان الطقس باردا إلى حد تجمد أطرافي، وفي صمت الليل لا صوت إلا إيماء قطة خلف الباب لا يكفيها الوسادة المفروشة لها لكي تنام في الدفء، وتبدو أيضا جائعة لم تكن هي الجائعة فقط، لقد كنت أنا أيضا. نهضت من فراشي وأعددت لها طعاما وأدخلتها في داخل شقتي لعلها تحظى بالدفء، بينما تفرغت لإعداد طعام لي
كنت أبحث عما يملأ الفراغ بداخلي، يجلب الدفء لروحي، ويزيل البرد الذي يحيط بها. اعتقدت في البداية أن الجوع هو لجسدي فقط، لكن اتضح لي أن الروح هي ما كانت بحاجة إلى ونس ومودة. تذكرت أن هذا الإحساس زارني مع بدايات شبابي، ولذا قررت السفر إلى بلدتي وطلب مساعدة أمي لاختيار شريكة تقاسمني الحياة
لكن التجربة الأولى كانت خيبة. أحضرت لي أمي امرأة ثرثارة، لا تهتم إلا بإصلاح جواربي القديمة وإعداد شوربة العدس وطبخ اللحم في قارورة فخار حين تصعد أبخرتها تشعر بدفء البيت والحياة رغم ذلك مرت السنوات بيننا دون تفاهم، رعم الروائح المنبعثة من اللحم، قررت إنهاء تلك العلاقة إلى الأبد،
بعدها، قررت أن أبحث عن شريكة أختارها بنفسي. وجدت امرأة عبر أحد المنتديات الأدبية. كانت تشاركني حب الفنون، فظننت أنها الشريكة المثالية. عرضت عليها الزواج ووافقت، ولكن سرعان ما ظهرت الخلافات. كانت تتهمني بالتناقض وانعدام الثبات على المبادئ، ورفضت الإنجاب لتحمي أولادها من التشبه بوالدهم كما كانت تقول. حتى الأنشطة اليومية كانت محل صراع، إذ كنا نقسم الأيام بين الطهي والتنظيف، لكي تقضي وقتها في القراءة وحضور الندوات. أفضى ذلك إلى غياب الطعام البيتي تماماً واضطررنا إلى طلب الوجبات من الخارج. بعد صراعات طويلة، انتهى الأمر بالانفصال.
عدت بعدها للطرق التقليدية في الزواج عبر "زواج الصالونات"
حيث رشح لي أحد أصدقائي شقيقة زوجته. كانت جميلة ولكنها باردة وبطيئة في حركتها، لا تهتم لا بالطهي ولا بالكتب. هواياتها كانت تقتصر على الموضة والمجلات النسائية والاعتناء بجمالها، وهو أمر أعجبني بداية. مع مرور الوقت، بدأت أشعر بالملل والتفاهة في حياتنا معاً، فأدركت أن الجمال ليس كافياً وعلاقتنا انتهت.
اليوم تغير الحال. القدر يلقي أمامي بوردة جديدة: امرأة مطلقة تصغرني بثلاثين عاماً وتسكن بالقرب من شقتي الجديدة. ظللت أفكر إذا ما كانت تشبه زوجتي الأولى أم الثانية أم الثالثة، لكن لم يهمني شيئا الآن سوى الاقتراب منها والزواج بها.
قابلت والدها صدفة وطلبت زيارته بنية التقدم لخطبة ابنته دون الإعلان عن ذلك مباشرة. الرجل دعاني للحضور بعد صلاة العشاء في شقته المطلة على البحر، حيث الهواء العليل ينعش الروح. ارتديت ملابس جديدة، وأحضرت معي قطعاً من الحلوى وبعض الورود الحمراء لهذه المناسبة.
عندما طرقت الباب فتحت لي ابنته. بدت كنجمة هبطت من عالم الخيال بابتسامة هادئة رحبت بي قائلة "تفضل يا عمو!". وقع الكلام عليّ كالصاعقة. شعرت وكأن نجوم السماء تساقطت فوق رأسي وأبلغتني بحقائق غفلت عنها. فجأة أدركت عمق الفارق بيننا: ثلاثون عاماً ليست مجرد رقم؛ بل جيل كامل كافٍ لأكون "عمو" أو حتى جداً لها.
جلست مع والدها وأخذت واجب الضيافة، معلنا عن سعادتي بمعرفته هو وابنته التي هي ابنتي أيضا وانصرفت.
تعليقات
إرسال تعليق