النجاح الذي يغيّر الموازين/بقلم الكاتب/عبدالفتاح الطياري.
الفصل الثامن و الأخير: النجاح الذي يغيّر الموازين
من قصتي " غريب العائلة"
مرت أشهر قليلة بعد تلك العودة الأولى، وكان سعيد قد عاد إلى العاصمة حيث يعيش ويعمل. لكن هذه المرة، لم يكن الغياب قطيعة كما كان من قبل، بل صار تواصلًا مختلفًا: مكالمات من أمه كل أسبوع، رسائل من أبناء الخالات يطلبون نصائح للدراسة، ودعوات متكررة من الجد للزيارة.
في منتصف العام، صدرت أول رواية يترجمها رسميًا، تليها سلسلة مقالات في صحيفة ثقافية معروفة. بدأ اسمه يظهر في الصحف وعلى مواقع التواصل، وصار يتلقى دعوات لحوارات إذاعية.
في إحدى الأمسيات، تلقى اتصالًا من خاله، ذلك الخال الذي كان دائم السخرية من "أحلامه الورقية". بدا صوته مترددًا لكنه صادق:
رأيت مقالك في الجريدة… لم أكن أظن أن هذا المجال له كل هذا الصدى. أحسنت يا بني.
توقف سعيد لحظة قبل أن يجيب، ابتسم رغمًا عنه وقال:
شكرًا خالي… يسعدني أن المقال أعجبك.
كانت تلك الجملة القصيرة كافية لتفتح بابًا جديدًا في العلاقة بينهما.
شيئًا فشيئًا، بدأت نظرات العائلة تتبدّل. الخال عبد القادر، الذي طالما عايره بأنه "يضيع وقته"، صار أول من يشتري الصحيفة كل خميس ليقرأ مقال سعيد. بل وصل الأمر إلى أن يريها لأصدقائه في المقهى قائلًا:
هذا ابن أختي… يكتب في أكبر الجرائد!
حتى أبناء العمومة الذين كانوا يلقبونه "الغريب"، صاروا يتفاخرون أمام أصدقائهم:
قريبنا كاتب… تعرفون؟
أما الأطفال، فقد تحولوا من مصدر للضيق إلى جمهور صغير متحمّس، يتابعون كل جديد، ويرسلون له صورهم وهم يمسكون بكتبه.
أمه، التي كانت أكثر من يخاف عليه، أصبحت الأكثر فخرًا به. كانت تحتفظ بكل قصاصة جريدة كتب فيها، وتعلّق بعضها في المطبخ. وحين يزورهم، تقدمه لضيوفها بعبارة تتكرر كل مرة:
هذا ابني… الكاتب.
لم تعد تسأله عن الزواج أو العودة النهائية، بل صارت تسأله: متى تكتب كتابك الخاص؟
في إحدى زياراته، جلس سعيد إلى جانب جده في الحديقة، والشيخ العجوز يراقب حفيداته يلعبن. قال الجد بصوت منخفض لكنه مليء بالحكمة:
أتعلم يا سعيد… النجاح لا يغيّر قلب الناس فقط، بل يغيّر طريقة نظرهم إلى الحلم. لقد جعلهم يرون أن الاختلاف ليس هروبًا، بل طريق آخر إلى نفس الجبل.
ابتسم سعيد بهدوء. كانت تلك الجملة تختصر سنوات من العناء والصراع و الصبر...
مع مرور الوقت، لم يعد سعيد يشعر بأنه "الغريب في عائلته". لم تتغيّر العائلة تمامًا، فالأحاديث ما زالت تدور حول التجارة والممتلكات، لكن شيئًا في العمق تبدّل: لم تعد أحلامه تُقابل بالشك أو الاستهزاء، بل بالاحترام وربما ببعض الحسد الهادئ.
صار حضوره في لقاءاتهم مريحًا، يُسأل عن عمله باهتمام حقيقي، ويُستشار في شؤون أبناء العمومة الذين يريدون دراسة الأدب أو الإعلام.
في شقته الهادئة بالعاصمة، جلس ذات مساء يراجع فصول كتابه الأول، كتاب يحمل ملامح حياته كلها: الغربة، التمرّد، والبحث عن الذات.
تأمل صور العائلة على رفّ مكتبه، ثم همس لنفسه بابتسامة مطمئنة:
لم أعد غريبًا… فقط كنت بحاجة أن أكون نفسي أولًا.
الخاتمة: جذور لا تُقتلع
في مساء شتوي دافئ، جلس سعيد في شقته يراقب المطر يتساقط على نوافذ العاصمة. على مكتبه تتناثر أوراق كتابه الأول، وبجانبها صورة كبيرة للعائلة التُقطت في آخر عيد. في الصورة كان الجميع يضحك، أطفال يتزاحمون حوله، ويد أمه على كتفه كأنها تقول:
أنت منّا… مهما ابتعدت.
أغلق الحاسوب، تناول هاتفه وأرسل رسالة قصيرة لأمه: سأزوركم السبت… اشتقت للبيت.
لم يعد يشعر أن العودة خيانة لأحلامه، ولا أن السفر هروب من جذوره. لقد اكتشف أن الاستقلال الحقيقي لا يعني الهرب من العائلة، بل القدرة على اختيار القرب منها دون خوف أو شعور بالذنب.
وقف أمام النافذة، تنفّس هواءً باردًا يحمل رائحة الأرض المبللة، وقال لنفسه بصوت يكاد يُسمع:
نجحت لأكون نفسي… والآن أستطيع أن أعود كلما أردت، دون أن أفقد شيئًا من حريتي.
هل أني ولدت من جديد!؟
كانت ولادتي عسيرة، والمخاض مؤلم… لكن عائلتي كانت دائمًا مرفئي.
على ناصية الألم، تحط الرحال؛ والبياض في المفرق ينتفض… هل هو بيان حكمة أم رسم واقع؟
أصبح المال كرامة عند البعض… فهل أستطيع أن أفرّق بين الماكر والتقي؟
حتى في عائلتي، على سطح الصف المرصوص، تظهر علامات التظاهر، وأنا… أنا ربان نفسي.
في حقل الحتم تستوي السنابل، وكل حصاد ليس بريئًا. تتدافع الموبقات في حفلاتها، تتهافت على الأقنعة الملونة استعدادًا للرقص التنكري.
هل أنا دونكيشوت، أخوض معركة وهمية ضد أعداء في مخيلتي؟ أم كنت أظن نفسي في مهمة مقدسة، أرفع الحق فوق كل جثمان محجوب؟
ربما قرأت الكثير من الكتب… وربما سمحت لها أن تعلمني أن البطولة ليست في الانتصار على الآخرين، بل في الانتصار على النفس، على الخوف، على الشك.
في رحم الخريف، يودع الصيف لهيبه، ويحل العقل مكانه… الرجوع للعائلة، صلة الرحم، وروائح البيت الفائقة، لم تعد فضائل عابرة، بل أصبحت ملاذًا. لكن، هيهات، زمن الثقة المجانية قد مات، وزمن التفويض المطلق انتهى.
وأنا… خلقت من جديد.
أعود إلى جذوري، وأحتفظ بحريتي. أعود وأنا نفسي، لا غريبًا، ولا مُرهقًا، بل ربان حياتي، صانع لحظاتي، ومستكشف عوالم قلبي.
انتهت
تعليقات
إرسال تعليق