الخاتم/بقلم الكاتب/فرات المحسن.
الخاتم
فرات المحسن
في الشهر الفائت جيء بنا مع الفوج إلى هذا الفج من أرض المعركة المجنونة. خمسة رجال بثياب العسكرية الرثة. لم نغتسل منذ زمن لكثرة أيام المعارك وساعاتها المرعبة الموحشة. في اليوم الأول من الشهر صدحت حنجرة عبد الرحيم الضامن بشجنها المؤسي، عند الساتر الذي يختفي ملجأنا بين انحناءته الحادة. ناح عبد الرحيم وتوجع وكنا جميعا نلوك الحزن مع صوته تأسيا دون جزع. الأسبوع الفائت كان عبد الرحيم جاثيا على ركبتيه أمام باب الملجأ يترنح مثل شحاذ يستعطف المارة.اختار هذه الزاوية دون غيرها ليتكئ عند حافتها ضاما بين أصابعه خاتم خطوبته الذي ألبسته إياه حبيبته في إجازته الأخيرة. فتح أصابعه ووضع الخاتم في أصبعه الأوسط ثم استله ووضعه في أصبع البنصر من اليد الأخرى، كرر ذلك وهو ينشد مناحته، تهدج صوته حزنا دون أن نرى له دمعا.
البارحة، كانت النجوم تلمع في الطرف الآخر من العالم، وظلمة المساء تسدل عتمتها لتغلق الأفق البعيد، والناس في المدن البعيدة نيام، ربما يتظاهرون بالنوم، ولكن جفونهم كانت مغلقة بانتظار مداهمة النوم، لم يكن هناك سوانا يتنصت أصوات المدافع وأزيز الرصاص وانفلاق القنابل، نمد أجسادنا في الملجأ الرطب نترقب القادم بعيون جاحظة فزعة.
في حديث طويل قال عبد الرحيم بأن في قريته القصية هناك في الجنوب، يتبادل الناس المحبة والخوف والتوجع وحتى الشتائم بالغناء، ولن تجد بينهم من لا يمتلك صوت غريد. هكذا قال عبد الرحيم وهو في حالة انشراح ونشوة، يدير الخاتم حول أصبعه ثم راح ينشد.
حين يغني عبد الرحيم أراه وكأنه وحده من يمتلك المكان وكل شيء فيه. جميعا كنا نشعر ذلك، لذا نعافه لهواجسه وتلذذه . البارحة غنى وشاركناه، فكنا نردد معه مثل جوق ،وكأنا مارسنا الغناء طويلا، وعرفنا بعضنا منذ سنين بعيدة. صار عبد الرحيم ملاكنا الذي نرقب تجليات صوته لنحلق بعيدا مع أشجانه، ونبعد عنا وحشة الحرب وترقب الموت، ولكل منا أرجوحة من حكايات خوف وألم وتوجع،كنا نتتبعها بين تموجات ورخامة صوته.
كانت لي أسبابي لكتم ألمي وأسراري الشخصية، لم أكن أرغب البوح عنها. لم أود سرد حكاياتي حتى لعبد الرحيم الذي يسرني بالكثير من أسراره، ولست عارضا مشكلة عزوفي الذهاب إلى بيت أمي لوجود الرجل الذي حل بديلا عن أبي، رغم ما أشعر به من ألم ممض لفراقها. وهناك في عيون شركائي في الحظيرة المسكونة بالترقب والرعب اليومي، ما يشفع لذرف الدموع. ولكن عبد الرحيم كان صلدا صلبا رغم غنائه الموجوع الذي يدمي القلب.
البارحة مساءً أدار خاتم خطوبته بين كفيه لمرات ، وكانت عيناه السوداوان تدوران في أفق بعيد، عند حافة السماء المغبرة المرمية خلف الساتر الترابي، وصوته يعلو شجنا، كان كمن يحلق في الريح ويمسك السحاب. للمرة الأولى شاهدت دمعة منفردة تسربت هابطة فوق وجنته المتغضنة، وكانت أصابعه تعتصر خاتم الخطوبة بقوة.
اليوم كان المساء شاحبا مغلقا تخترقه التماعات القنابل المتساقطة بهمجية، كنا فيه واجمين مذهولين موجوعين، تلامس أكفنا وجه عبد الرحيم البارد الشاحب، كان يتلوى مثل سمكة أخرجت من الماء، يتأوه بوهن شديد ولا يستطيع رفع جفنيه، بقعة الدم التي نزت من جسده تحيط به مثل دائرة سوداء.
ـ القنبلة سقطت جواره ؟
ـ كلا، فقد انفلقت عندما كان يغني فوق الساتر وشظاياها حزت الكثير من المواضع في جسده.
هكذا اختلفنا حول مكان مقتله حين وجدناه جاثما بين جدار الملجأ وحافة الساتر الترابي. ارتخى جسده كليا وكان القمر شاحبا شحيح الضوء مصلوبا في قلب السماء، حينها لاحظت بأن أصابع الكف اليسرى لعبد الرحيم قد بترت واختفى معها خاتم الخطوبة.
ليومين متتالين بحثنا في تجاويف الأرض القريبة من المكان الذي قتل فيه وخلف الساتر الترابي عن أصابع الكف، أو الأحرى عن الخاتم، لنلحقه بجثته ولكن محاولاتنا خابت تماماً.
تعليقات
إرسال تعليق