الطبيب الفارغ/بقلم الكاتب/أمين الساطي.

قصة قصيرة 

الطبيب الفارغ

أمين الساطي 

 لأكثر من واحدٍ وثمانين عاماً، عاش الدكتور أيمن حياة عادية كبقية الرجال، أمضاها في الحب والكراهية والخسارة والربح والانتظار، وقضى أغلبها بين الدوام بالمستوصف الحكومي الذي يعمل فيه، وبين زوجته المملة وولديه اللذين كان يتصور بأنهما الوحيدان اللذان يدفعانه للاستمرار في الحياة. لقد شاهد العالم يتغير، فدول صغيرة تظهر على خريطة العالم، ودول كبيرة تتفكك وتنهار، لقد عاش أخيراً إشعاع الشاشات الإلكترونية واختراع الجوال وسيطرة وسائل الإعلام على عقول الناس.
 دفن والديه وزوجته وعدداً كبيراً من أصدقائه، وأخيراً رأى ولديه وهما يكبران، ثم يهاجران إلى ألمانيا بعيدين عنه في بلاد لم يشاهدها سوى على شاشة السينما.

 الآن جالس وحده بالمساء في شقته الصغيرة في عيد ميلاده الحادي والثمانين، انتابه شعور غريب بالعزلة والتهميش، مع بعض الإحساس بالندم، تذكر أنه في سنته النهائية في كلية الطب وقع في غرام طالبة في قسم اللغة الإنكليزية اسمها سلمى، وكانت تلك أسعد سنة أمضاها في حياته، لقد عاهدها على أنه سيخطبها من أهلها بعد تخرجه مباشرةً، لكن بعد تخرجه وقف أبوه ضد هذه الزيجة، وأصرَّ عليه بأن يسافر إلى فرنسا للتخصص من أجل تأمين مستقبله المهني، وبالفعل سافر إلى فرنسا، وهناك عاش حياة ثانية، جرَّب فيها أن يتشبع بالثقافة الفرنسية، ويعيش كالفرنسيين، ونسي سلمى. بعد عودته عملت والدته على تزويجه من فتاة غنية تصغره بعشر سنوات، وهو الآن يفكر كيف سيكون وضعه لو تزوج سلمى؟ تخيلات تتيح له الهروب من واقعه التعيس واستكشاف ما هو أبعد من حدوده الحالية المحدودة.

 أخذت هذه الأفكار الغريبة تلحُّ عليه مؤخراً منذ وفاة منير أعزّ أصدقائه، لقد أصبح كل شيء بارداً لا معنى له، إنه الشعور بالفراغ، البعض يتصوّر أن مع تقدم الرجل بالعمر يزداد حكمةً، وتصبح في جعبته قصصٌ كثيرةٌ ليرويها لأصدقائه وأحفاده، ولكنه يشعر بأنه يزداد مراهقةً وشعوراً بالندم، لأنه لم يتبع قلبه، ولم يتزوج من سلمى، اكتشف في هذه اللحظة بأن ليس عنده شيءٌ مفيدٌ ليقوله، ولا فكرة مهمة واحدة تستحق الكتابة، واستغرب بأنه من أين كان يأتي بهذه الأفكار والمعلومات التي كان يكتبها في المجلة الطبية التي كانت تصدر عن نقابة الأطباء في نهاية كل شهر.

 حاول من جديد أن يبحث في ذكرياته عن جلساته مع سلمى، ليخدِّر نفسه مؤقتاً بأحاسيس السعادة، لكن الصور جاءت كلها متشابهة وغير واضحة وبلا موضوع محدد ولا صوت، وأخذت تتلاشى بعد دقائق من تخيّلها، اقتنع في تلك اللحظة بأنه قد أمضى حياته في اتباع قواعد الروتين وتنفيذ تعليمات والده ثم رؤسائه في وظيفته الحكومية، لقد نفَّذ كل ما يُطلب منه من دون محاولة تحقيق أحلامه وتطلعاته الذاتية، الآن وهو يجلس وحيداً وقد زالت جميع المظاهر الزائفة التي ظلت تشتت تفكيره، يعود إلى وعيه الذاتي الداخلي، لينظر إلى أعماق نفسه، فيجد أنها خاوية، وليس هناك شيء فيها يستحق الذكر، خطر له أن يأخذ قلماً، ويبدأ الكتابة عن هذه الأحاسيس والمشاعر الجديدة التي يمرُّ بها.

 لأول مرة شعر بالخوف الحقيقي، ليس من الموت الذي من المفترض أن يكون قريباً منه في هذا العمر، بل لأنه عاش فترة طويلة ولم يترك شيئاً من أثره. توقف عن محاولة الكتابة، لم تعد هناك كلمات ليتلاعب بها، ولتعطي عمقاً مصطنعاً، لتصبح تستحق التدوين، لأنه لم يكن هناك أصلاً ما كان يستحق الكتابة عنه.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

عجائب الدنيا /بقلم الكاتبة/دينا مصطفى.

مستقبل/بقلم الكاتبة /عايدة ناشد باسيلي.

بين مخالب اليأس/بقلم الشاعرة /حورية كداي قويدري.