عندما كنت صغيرًا/بقلم الكاتب/وسيم عامر .

عندما كنت صغيرًا، كنت أحب إطالة شعري! كنت أظنه سرًا صغيرًا من أسرار التمرد الجميل، أتركه ينمو خصلة بعد خصلة كما لو أنني أسقيه. 
لكن والدي لم يكن يُعجبه الأمر.. 
كان يراه فوضى، و أني خارج عن صف الانضباط، وكلما رآني قال بصرامة: "قُصّه.. أنا لديّ أصدقاء محترمون."
وكأن شعري الطويل كان عثرة في طريقه الاجتماعي، يُعرقل الاحترام الذي بناه على مر السنين، كأنه سكينٌ يجرح اسمه، ومرآةٌ  تُشوّه صورته.

كنت أحزن أحيانًا، لا لأن الأمر محزن، بل لأني لم أكن أملك الجرأة لأقول شيئًا، فأصمت، و أقصّه، وأبتلع شعوري وكلما نبتت خصلة لا أحد يعرف أنها تنمو.

أمي كانت تقول لي بهمسٍ أحبه: "دعهُ قليلاً، إنه يُشبه موج البحر وهو يتحرك."
لكنها لم تقف يومًا أمام صرامة أبي، كانت مثل كثير من الأمهات، تحبنا على طريقتها، لكن لا تواجه العاصفة حين تهب.

وتمضي السنوات.. 
وكنت أقصّه قبل أن يُطلب هذا مني، صرتُ أرتدي وجهه كما كان يريد، لا كما أريد، ليس لأني اقتنعت، بل لأني تعبت من التبرير.

ثم مرض أبي.. وتكسرت صرامته، وكأنه قرر بصمت أن ينسحب من الحياة دون ضجيج.
وفي أحد الأيام كنت عائدًا للتو من سفرٍ طويل وكان شعري أطول بكثير من المعتاد. 
فنظر إليّ طويلاً، ثم قال بابتسامة بالكاد خرجت: "يشبه شعري وأنا شاب، أنا لا أدري لمَ كنت أمنعك."
كانت تلك المرة الأولى التي يشبهني فيها أبي بنفسه، وكانت المرة الأخيرة التي قال فيها شيئًا جميلا عن شعري.
كنت أراقبـه بصمت وأتسـاءل: أهذا ما تبقـى من الرجل الذي كنت أحاول أن أشـبهه؟

و رحل أبي.. 
لكن الغريب أن رحيله لم يكن صاخبًا كما كنت أتوقع، بل كان هادئًا كأن الموت جاء إليه على شكل استراحة من التعب، توقف قلبه لكنه ظل ينبض بي
وفي يوم جنازته، كان شعري طويلًا.. وقفت أمام النعش،اقتربت منه، حدقت في ملامحه وعانقته.
لكن الهواء مرّ حينها وهز خصلةً من شعري وسقطت على جبينه فشعرت للمرة الأولى أنه كان يحبني. 

أمي كانت تقف في زاوية الغرفة، عيناها مليئتان بما لم تستطع قوله.
اقتربت مني بخطى حزينـة، ثم همست لي كما كانت تفعل في صغري: "لا تقصّه.. احتفظ به، والدك أحبه أخيرًا.. أحبه إلى الأبد." ثم بدأت تبكي بحرقة.
بعض الآباء لا يموتون، يعيشون في ملامحنا، كأننا حين نكبر، لا نكبر وحدنا، بل نكملهم.
رحل أبي، لكنني بدأت أراه بوضوحٍ غريب كلما نظرت إلى وجهي في المرآة.
ربما لم أكـن أريد شعرًا طويلًا، ربما كنت أبحث عن طريقة لأشـبه أبي.

وسيم عامر

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

عجائب الدنيا /بقلم الكاتبة/دينا مصطفى.

مستقبل/بقلم الكاتبة /عايدة ناشد باسيلي.

بين مخالب اليأس/بقلم الشاعرة /حورية كداي قويدري.